الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب السترة بمكة وغيرها) ساق فيه حديث أبي جحيفة عن سليمان بن حرب عن شعبة عن الحكم، والمراد منه هنا قوله " بالبطحاء " فقد قدمنا أنها بطحاء مكة. وقال ابن المنير: إنما خص مكة بالذكر دفعا لتوهم من يتوهم أن السترة قبلة، ولا ينبغي أن يكون لمكة قبلة إلا الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة. انتهى. والذي أظنه أنه أراد أن ينكت على ما ترجم به عبد ا الرزاق حيث قال في " باب لا يقطع الصلاة بمكة شيء " ثم أخرج عن ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلب عن أبيه عن جده قال " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد الحرام ليس بينه وبينهم - أي الناس - سترة " وأخرجه من هذا الوجه أيضا أصحاب السنن، ورجاله موثقون إلا أنه معلول، فقد رواه أبو داود عن أحمد عن ابن عيينة قال: كان ابن جريج أخبرنا به هكذا، فلقيت كثيرا فقال: ليس من أبي سمعته، ولكن عن بعض أهلي عن جدي. فأراد البخاري التنبيه على ضعف هذا الحديث وأن لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة، واستدل على ذلك بحديث أبي جحيفة، وقد قدمنا وجه الدلالة منه. وهذا هو المعروف عند الشافعية وأن لا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها. واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطائفين دون غيرهم للضرورة، وعن بعض الحنابلة جواز ذلك في جميع مكة. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ فَصَلَّى بِالْبَطْحَاءِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَنَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةً وَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ الشرح: قوله: (باب السترة بمكة وغيرها) ساق فيه حديث أبي جحيفة عن سليمان بن حرب عن شعبة عن الحكم، والمراد منه هنا قوله " بالبطحاء " فقد قدمنا أنها بطحاء مكة. وقال ابن المنير: إنما خص مكة بالذكر دفعا لتوهم من يتوهم أن السترة قبلة، ولا ينبغي أن يكون لمكة قبلة إلا الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة. انتهى. والذي أظنه أنه أراد أن ينكت على ما ترجم به عبد ا الرزاق حيث قال في " باب لا يقطع الصلاة بمكة شيء " ثم أخرج عن ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلب عن أبيه عن جده قال " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد الحرام ليس بينه وبينهم - أي الناس - سترة " وأخرجه من هذا الوجه أيضا أصحاب السنن، ورجاله موثقون إلا أنه معلول، فقد رواه أبو داود عن أحمد عن ابن عيينة قال: كان ابن جريج أخبرنا به هكذا، فلقيت كثيرا فقال: ليس من أبي سمعته، ولكن عن بعض أهلي عن جدي. فأراد البخاري التنبيه على ضعف هذا الحديث وأن لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة، واستدل على ذلك بحديث أبي جحيفة، وقد قدمنا وجه الدلالة منه. وهذا هو المعروف عند الشافعية وأن لا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها. واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطائفين دون غيرهم للضرورة، وعن بعض الحنابلة جواز ذلك في جميع مكة. *3* وَقَالَ عُمَرُ الْمُصَلُّونَ أَحَقُّ بِالسَّوَارِي مِنْ الْمُتَحَدِّثِينَ إِلَيْهَا وَرَأَى عُمَرُ رَجُلًا يُصَلِّي بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ فَأَدْنَاهُ إِلَى سَارِيَةٍ فَقَالَ صَلِّ إِلَيْهَا الشرح: قوله: (باب الصلاة إلى الأسطوانة) أي السارية، وهي بضم الهمزة وسكون السين المهملة وضم الطاء بوزن أفعوانة على المشهور، وقيل بوزن فعلوانة، والغالب أنها تكون من بناء، بخلاف العمود فإنه من حجر واحد. قال ابن بطال: لما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى الحربة، كانت الصلاة إلى الأسطوانة أولى لأنها أشد سترة. قلت: لكن أفاد ذكر ذلك التنصيص على وقوعه، والنص أعلى من الفحوي. قوله: (وقال عمر) هذا التعليق وصله ابن أبي شيبة والحميدي من طريق همدان - وهو بفتح الهاء وسكون الميم وبالدال المهملة، وكان بريد عمر، أي رسوله إلى أهل اليمن - عن عمر به. ووجه الأحقية أنهما مشتركان في الحاجة إلى السارية المتخذة إلى الاستناد والمصلي لجعلها سترة، لكن المصلي في عبادة محققة فكان أحق. قوله: (ورأي ابن عمر) كذا ثبت في رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما، وعند بعض الرواة " ورأى عمر " بحذف ابن وهو أشبه بالصواب، فقد رواه ابن أبي شيبة من طريق معاوية بن قرة بن إياس المزني عن أبيه وله صحبة قال " رآني عمر وأنا أصلي " فذكر مثله سواء لكن زاد " فأخذ بقفاي". وعرف بذلك تسمية المبهم المذكور في التعليق. وأراد عمر بذلك أن تكون صلاته إلى سترة، وأراد البخاري بإيراد أثر عمر هذا أن المراد بقول سلمة " يتحرى الصلاة عندها " أي إليها، وكذا قول أنس " يبتدرون السواري " أي يصلون إليها. الحديث: حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ كُنْتُ آتِي مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَيُصَلِّي عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ فَقُلْتُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ قَالَ فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا الشرح: قوله: (حدثنا المكي) هو ابن إبراهيم كما ثبت عند الأصيلي وغيره، وهذا ثالث ثلاثيات البخاري. وقد ساوى فيه البخاري شيخه أحمد بن حنبل، فإنه أخرجه في مسنده عن مكي بن إبراهيم. قوله: (التي عند المصحف) هذا دال على أنه كان للمصحف موضع خاص به، ووقع عند مسلم بلفظ " يصلي وراء الصندوق " وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه، والأسطوانة المذكورة حقق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسطة في الروضة المكرمة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين. قال: وروى عن عائشة أنها كانت تقول " لو عرفها الناس لاضطربوا عليها بالسهام " وأنها أسرتها إلى ابن الزبير فكان يكثر الصلاة عندها. ثم وجدت ذلك في تاريخ المدينة لابن النجار وزاد " أن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها " وذكره قبله محمد بن الحسن في أخبار المدينة. قوله: (يا أبا مسلم) هي كنية سلمة، و " يتحرى " أي يقصد. الحديث: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ كِبَارَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ وَزَادَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَنَسٍ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (حدثنا سفيان) هو الثوري، وعمرو بن عامر هو الكوفي الأنصاري، لا والد أسد فإنه يجلي، ولا عمرو بن عامر البصري فإنه سلمى. قوله: (لقد رأيت) في رواية المستملي والحموي (لقد أدركت) . قوله: (عند المغرب) أي عند أذان المغرب، وصرح بذلك الإسماعيلي من طريق ابن مهدي عن سفيان، ولمسلم من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس نحوه. قوله: (وزاد شعبة عن عمرو) هو ابن عامر المذكور، قد وصله المصنف في كتاب الأذان من طريق غندر عن شعبة فقال " عن عمرو بن عامر الأنصاري " وزاد فيه أيضا " يصلون الركعتين قبل المغرب " وسيأتي الكلام عليه هناك مع بقية مباحثه وتعيين من وقفنا عليه من كبار الصحابة المشار إليهم فيه إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله: (باب الصلاة بين السواري في غير جماعة) إنما قيدها بغير الجماعة لأن ذلك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوب. وقال الرافعي في شرح المسند: احتج البخاري بهذا الحديث - أي حديث ابن عمر عن بلال - على أنه لا بأس بالصلاة بين الساريتين إذا لم يكن في جماعة، وأشار أن الأولى للمنفرد أن يصلي إلى السارية، ومع هذه الأولوية فلا كراهة في الوقوف بينهما - أي للمنفرد - وأما في الجماعة فالوقوف بين الساريتين كالصلاة إلى السارية. انتهى كلامه. وفيه نظر لورود النهي الخاص عن الصلاة بين السواري كما رواه الحاكم من حديث أنس بإسناد صحيح، وهو في السنن الثلاثة، وحسنه الترمذي. قال المحب الطبري: كره قوم الصف بين السواري للنهي الوارد عن ذلك، ومحل الكراهة عند عدم الضيق، الحكمة فيه إما لانقطاع الصف أو لأنه موضع النعال. انتهى. وقال القرطبي: روى في سبب كراهة ذلك أنه مصلى الجن المؤمنين. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَبِلَالٌ فَأَطَالَ ثُمَّ خَرَجَ وَكُنْتُ أَوَّلَ النَّاسِ دَخَلَ عَلَى أَثَرِهِ فَسَأَلْتُ بِلَالًا أَيْنَ صَلَّى قَالَ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ الشرح: قوله: (حدثنا جويرية) هو بالجيم بصيغة التصغير وهو ابن أسماء الضبعي، واتفق أن اسمه واسم أبيه من الأعلام المشتركة بين الرجال والنساء. وقد سمع جويرية المذكور من نافع، وروى أيضا عن مالك عنه. قوله: (كنت أول الناس) كذا في رواية أبي ذر وكريمة. وفي رواية الأصيلي وابن عساكر " وكنت " بزيادة واو في أوله وهي أشبه، ورواه الإسماعيلي من هذا الوجه فقال بعد قوله ثم خرج " ودخل عبد الله على أثره أول الناس". قوله: (بين العمودين المقدمين) في رواية الكشميهني " المتقدمين " كذا في هذه الرواية. وفي رواية مالك التي تليها " جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه"، وليس بين الروايتين مخالفة، لكن قوله في رواية مالك " وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة " مشكل لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين، ولهذا عقبه البخاري برواية إسماعيل التي قال فيها " عمودين عن يمينه"، ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك ويرشد إلى ذلك قوله " وكان البيت يومئذ " لأن فيه إشعارا بأنه تغير عن هيئته الأولى. وقال الكرماني: لفظ العمود جنس يحتمل الواحد والاثنين، فهو مجمل بينته رواية " وعمودين"، ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد بل اثنان على سمت والثالث على غير سمتهما، ولفظ " المقدمين " في الحديث السابق مشعر به، والله أعلم. قلت: ويؤيده أيضا رواية مجاهد عن ابن عمر التي تقدمت في " باب: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " فإن فيها " بين الساريتين اللتين على يسار الداخل " وهو صريح في أنه كان هناك عمودان على اليسار وأنه صلى بينهما، فيحتمل أنه كان ثم عمود آخر عن اليمين لكنه بعيد أو على غير سمت العمودين فيصح قول من قال " جعل عن يمينه عمودين " وقول من قال " جعل عمودا عن يمينه". وجوز الكرماني احتمالا آخر وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفة فصلى إلى جنب الأوسط، فمن قال جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه ومن قال عمودين اعتبره. ثم وجدته مسبوقا بهذا الاحتمال، وأبعد منه قول من قال: انتقل في الركعتين من مكان إلى مكان، ولا تبطل الصلاة بذلك لقلته، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ وَمَكَثَ فِيهَا فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ مَا صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ ثُمَّ صَلَّى وَقَالَ لَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ وَقَالَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ الشرح: قوله: (وقال إسماعيل) أي ابن أبي أويس، كذا في رواية أبي ذر والأصيلي " قال " مجردة. وفي رواية كريمة " قال لنا " فوضح وصله. وقد ذكر الدارقطني الاختلاف على مالك فيه، فوافق الجمهور عبد الله بن يوسف في قوله: (عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره " ووافق إسماعيل في قوله " عمودين عن يمينه " ابن القاسم والقعنبي وأبو مصعب ومحمد بن الحسن وأبو حذافة وكذا الشافعي وابن مهدي في إحدى الروايتين عنهما. وقال يحيى بن يحيى النيسابوري فيما رواه عنه مسلم " جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه " عكس رواية إسماعيل، وكذلك قال الشافعي وبشر بن عمر في إحدى الروايتين عنهما، وجمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث، وقد جزم البيهقي بترجيح رواية إسماعيل ومن وافقه، وفيه اختلاف رابع. قال عثمان بن عمر عن مالك " جعل عمودين عن يمينه وعمودين عن يساره " ويمكن توجيهه بأن يكون هناك أربعة أعمدة اثنان مجتمعان واثنان منفردان فوقف عند المجتمعين، لكن يعكر عليه قوله " وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة " بعد قوله " وثلاثة أعمدة وراءه " وقد قال الدارقطني، لم يتابع عثمان بن عمر على ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ حِينَ يَدْخُلُ وَجَعَلَ الْبَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ فَمَشَى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ صَلَّى يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِهِ بِلَالٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ قَالَ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِنَا بَأْسٌ إِنْ صَلَّى فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ الشرح: قوله: (حتى يكون بينه وبين الجدار قريبا) كذا وقع بالنصب على أنه خبر كان واسمها محذوف. قوله: (من ثلاث أذرع) كذا لأبي ذر، ولغيره ثلاثة بالتأنيث والذراع يذكر ويؤنث. قوله: (يتوخى) المعجمة، أي يقصد. قوله: (قال) أي ابن عمر. قوله: (أن يصلي) كذا للكشميهني ولغيره أن صلى بلفظ الماضي، ومراد ابن عمر أنه لا يشترط في صحة الصلاة في البيت موافقة المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، بل موافقة ذلك أولى وإن كان يحصل الغرض بغيره. *3* الشرح: قوله: (باب الصلاة إلى الراحلة والبعير) قال الجوهري: الراحلة الناقة التي تصلح لأن يوضع الرحل عليها. وقال الأزهري: الراحلة المركوب النجيب ذكرا كان أو أنثى. والهاء فيها للمبالغة، والبعير يقال لما دخل في الخامسة. قوله: (والشجر والرحل) المذكور في حديث الباب الراحلة والرحل، فكأنه ألحق البعير بالراحلة بالمعنى الجامع بينهما، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، فقد رواه أبو خالد الأحمر عن عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ " كان يصلي إلى بعيره". انتهى. فإن كان هذا حديثا آخر حصل المقصود، وإن كان مختصرا من الأول - أن يكون المراد يصلي إلى مؤخرة رحل بعيره - اتجه الاحتمال الأول. ويؤيد الاحتمال الثاني ما أخرجه عبد الرزاق أن ابن عمر كان يكره أن يصلي إلى بعير إلا وعليه رحل، وسأذكره بعد. وألحق الشجر بالرحل بطريق الأولوية، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى حديث على قال " لقد رأيتنا يوم بدر وما فينا إنسان إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة يدعو حتى أصبح " رواه النسائي بإسناد حسن. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا قُلْتُ أَفَرَأَيْتَ إِذَا هَبَّتْ الرِّكَابُ قَالَ كَانَ يَأْخُذُ هَذَا الرَّحْلَ فَيُعَدِّلُهُ فَيُصَلِّي إِلَى آخِرَتِهِ أَوْ قَالَ مُؤَخَّرِهِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَفْعَلُهُ الشرح: قوله: (يعوض) بتشديد الراء، أي يجعلها عرضا. قوله: (قلت أفرأيت) ظاهره أنه كلام نافع والمسئول ابن عمر، لكن بين الإسماعيلي من طريق عبيدة ابن حميد عن عبيد الله بن عمر أنه كلام عبيد الله والمسئول نافع، فعلى هذا هو مرسل لأن فاعل يأخذ هو النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدركه نافع. قوله: (هبت الركاب) أي هاجت الإبل، يقال هب الفحل إذا هاج، وهب البعير في السير إذا نشط. والركاب الإبل التي يسار عليها ولا واحد لها من لفظها، والمعنى أن الإبل إذا هاجت شوشت على المصلي لعدم استقرارها، فيعدل عنها إلى الرحل فيجعله سترة. وقوله: (فيعدله) بفتح أوله وسكون العين وكسر الدال، أي يقيمه تلقاء وجهه. ويجوز التشديد. وقوله: (إلى أخرته) بفتحات بلا مد ويجوز المد، (ومؤخرته) بضم أوله ثم همزة ساكنة، وأما الخاء فجزم أبو عبيد بكسرها وجوز الفتح، وأنكر ابن قتيبة الفتح، وعكس ذلك ابن مكي فقال: لا يقال مقدم ومؤخر بالكسر إلا في العين خاصة، وأما في غيرها فيقال بالفتح فقط. ورواه بعضهم بفتح الهمزة وتشديد الخاء. والمراد بها العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب. قال القرطبي: في هذا الحديث دليل على جواز التستر بما يستقر من الحيوان، ولا يعارضه النهي في معاطن الإبل لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء، وكراهة الصلاة حينئذ عندها إما لشدة نتنها وإما لأنهم كانوا يتخلون بينها مستترين بها. انتهى. وقال غيره: علة النهي عن ذلك كون الإبل خلقت من الشياطين، وقد تقدم ذلك، فيحمل ما وقع منه في السفر من الصلاة إليها على حالة الضرورة ونظيره صلاته إلى السرير الذي عليه المرأة لكون البيت كان ضيقا. وعلى هذا فقول الشافعي في البويطي: لا يستتر بامرأة ولا دابة، أي في حال الاختيار. وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عبد الله بن دينار أن ابن عمر كان يكره أن يصلي إلى بعير إلا وعليه رحل، وكأن الحكمة في ذلك أنها في حال شد الرحل عليها أقرب إلى السكون من حال تجريدها. (تكملة) اعتبر الفقهاء مؤخرة الرحل في مقدار أقل السترة، واختلفوا في تقديرها بفعل ذلك. فقيل ذراع، وقيل ثلثا ذراع وهو أشهر، لكن في مصنف عبد الرزاق عن نافع أن مؤخرة رحل ابن عمر كانت قدر ذراع. *3* الشرح: قوله: (باب الصلاة إلى السرير) أورد فيه حديث الأسود عن عائشة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسط السرير الذي هي مضطجعة عليه. واعترضه الإسماعيلي بأنه دال على الصلاة على السرير لا إلى السرير. ثم أشار إلى أن رواية مسروق عن عائشة دالة على المراد، لأن لفظه " كان يصلي والسرير بينه وبين القبلة " كما سيأتي، فكان ينبغي له ذكرها في هذا الباب. وأجاب الكرماني عن أصل الاعتراض بأن حروف الجر تتناوب، فمعنى قوله في الترجمة " إلى السرير " أي على السرير، وادعى قبل ذلك أنه وقع في بعض الروايات بلفظ على السرير. قلت: ولا حاجة إلى الحمل المذكور، فإن قولها " فيتوسط السرير " يشمل ما إذا كان فوقه أو أسفل منه، وقد بان من رواية مسروق عنها أن المراد الثاني. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَعَدَلْتُمُونَا بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي مُضْطَجِعَةً عَلَى السَّرِيرِ فَيَجِيءُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ فَيُصَلِّي فَأَكْرَهُ أَنْ أُسَنِّحَهُ فَأَنْسَلُّ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْ السَّرِيرِ حَتَّى أَنْسَلَّ مِنْ لِحَافِي الشرح: قوله: (أعدلتمونا) هو استفهام إنكار من عائشة، قالته لمن قال بحضرتها " يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة " كما سيأتي من رواية مسروق عنها بعد خمسة أبواب، وهناك نذكر مباحث هذا المتن إن شاء الله تعالى. وقولها " رأيتني " بضم المثناة وقولها " أن أسنحه " بفتح النون والحاء المهملة أي أظهر له من قدامه. وقال الخطابي: هو من قولك سنح لي الشيء إذا عرض لي، تريد أنها كانت تخشى أن تستقبله وهو يصلي ببدنها، أي منتصبة. وقولها " أنسل " بفتح السين المهملة وتشديد اللام، أي أخرج بخفية أو برفق. *3* وَرَدَّ ابْنُ عُمَرَ فِي التَّشَهُّدِ وَفِي الْكَعْبَةِ وَقَالَ إِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ تُقَاتِلَهُ فَقَاتِلْهُ الشرح: قوله: (باب يرد المصلي من مر بين يديه) أي سواء كان آدميا أم غيره. قوله (ورد ابن عمر في التشهد) أي رد المار بين يديه في حال التشهد، وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق، وعندهما أن المار المذكور هو عمرو بن دينار. قوله: (وفي الكعبة) قال ابن قرقول: وقع في بعض الروايات " وفي الركعة " وهو أشبه بالمعنى. قلت: ورواية الجمهور متجهة، وتخصيص الكعبة بالذكر لئلا يتخيل أنه يغتفر فيها المرور لكونها محل المزاحمة. وقد وصل الأثر المذكور بذكر الكعبة فيه أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له من طريق صالح بن كيسان قال " رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة فلا يدع أحدا يمر بين يديه يبادره " قال: أي يرده. قوله: (إن أبى) أي المار (إلا أن يقاتله) أي المصلي (قاتله) كذا للأكثر بصيغة الفعل الماضي وهو على سبيل المبالغة. وللكشميهني (إلا أن يقاتله) بصيغة المخاطبة (فقاتله) بصيغة الأمر. وهذه الجملة الأخيرة من كلام ابن عمر أيضا، وقد وصلها عبد الرزاق ولفظه عن ابن عمر قال " لا تدع أحدا يمر بين يديك وأنت تصلي، فإن أبى إلا أن تقاتله فقاتله " وهذا موافق لسياق الكشميهني. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ المُغِيرَةِ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَدَوِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ قَالَ رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ يُصَلِّي إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ فَأَرَادَ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَدَفَعَ أَبُو سَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ فَنَظَرَ الشَّابُّ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلَّا بَيْنَ يَدَيْهِ فَعَادَ لِيَجْتَازَ فَدَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ أَشَدَّ مِنْ الْأُولَى فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ خَلْفَهُ عَلَى مَرْوَانَ فَقَالَ مَا لَكَ وَلِابْنِ أَخِيكَ يَا أَبَا سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ الشرح: قوله: (يونس) هو ابن عبيد، وقد قرن البخاري روايته برواية سليمان بن المغيرة، وتبين من إيراده أن القصة المذكورة في رواية سليمان لا في رواية يونس، ولفظ المتن الذي ساقه هنا هو لفظ سليمان أيضا لا لفظ يونس، وإنما ظهر لنا ذلك من المصنف حيث ساق الحديث في كتاب بدء الخلق بالإسناد المذكور الذي ساقه هنا من رواية يونس بعينه، ولفظ المتن مغاير للفظ الذي ساقه هنا، وليس فيه تقييد الدفع بما إذا كان المصلي يصلي إلى سترة. وذكر الإسماعيلي أن سليم بن حيان تابع يونس عن حميد على عدم التقييد. قلت: والمطلق في هذا محمول على المقيد، لأن الذي يصلي إلى غير سترة مقصر بتركها ولا سيما إن صلى في مشارع المشاة، وقد روى عبد الرزاق عن معمر التفرقة بين من يصلي إلى سترة وإلى غير سترة. وفي الروضة تبعا لأصلها: ولو صلى إلى غير سترة أو كانت وتباعد منها فالأصح أنه ليس له الدفع لتقصيره ولا يحرم المرور حينئذ بين يديه ولكن الأولى تركه. (تنبيه) : ذكر أبو مسعود وغيره أن البخاري لم يخرج لسليمان بن المغيرة شيئا موصولا إلا هذا الحديث. قوله: (فأراد شاب من بني أبي معيط) وقع في كتاب الصلاة لأبي نعيم أنه الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخرجه عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن زيد بن أسلم قال " بينما أبو سعيد قائم يصلي في المسجد فأقبل الوليد ابن عقبة بن أبي معيط فأراد أن يمر بين يديه، فدفعه، فأبى إلا أن يمر بين يديه فدفعه " هذا آخر ما أورده من هذه القصة. وفي تفسير الذي وقع في الصحيح بأنه الوليد هذا نظر، لأن فيه أنه دخل على مروان. زاد الإسماعيلي " ومروان يومئذ على المدينة " ا ه. ومروان إنما كان أميرا على المدينة في خلافة معاوية، ولم يكن الوليد حينئذ بالمدينة لأنه لما قتل عثمان تحول إلى الجزيرة فسكنها حتى مات في خلافة معاوية، ولم يحضر شيئا من الحروب التي كانت بين علي ومن خالفه. وأيضا فلم يكن الوليد يومئذ شابا، بل كان في عشر الخمسين فلعله كان فيه: فأقبل ابن الوليد بن عقبة فيتجه. وروى عبد الرزاق حديث الباب عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه فقال فيه " إذ جاء شاب " ولم يسمه أيضا. وعن معمر عن زيد بن أسلم وقال فيه " فذهب ذو قرابة لمروان". ومن طريق أبي العلاء فيه عن أبي سعيد فقال فيه " مر رجل بين يديه من بني مروان". وللنسائي من وجه آخر " فمر ابن لمروان " وسماه عبد الرزاق من طريق سليمان بن موسى " داود بن مروان " ولفظه " أراد داود بن مروان أن يمر بين يدي أبي سعيد ومروان يومئذ أمير المدينة " فذكر الحديث، وبذلك جزم ابن الجوزي ومن تبعه في تسمية المبهم الذي في الصحيح بأنه داود بن مروان، وفيه نظر لأن فيه أنه من بني أبي معيط وليس مروان من بنيه، بل أبو معيط ابن عم والد مروان، لأنه أبو معيط بن أبي عمرو بن أمية، ووالد مروان هو الحكم بن أبي العاص بن أمية، وليست أم داود ولا أم مروان ولا أم الحكم من ولد أبي معيط، فيحتمل أن يكون داود نسب إلى أبي معيط من جهة الرضاعة أو لكون جده لأمه عثمان بن عفان كان أخا للوليد بن عقبة بن أبي معيط لأمه فنسب داود إليه وفيه بعد، والأقرب أن تكون الواقعة تعددت لأبي سعيد مع غير واحد، ففي مصنف ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي سعيد في هذه القصة " فأراد عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن يمر بين يديه " الحديث، وعبد الرحمن مخزومي ما له من أبي معيط نسبة، والله أعلم. قوله: (فلم يجد مساغا) بالغين المعجمة، أي ممرا. وقوله "فنال من أبي سعيد"، أي أصاب من عرضه بالشتم. قوله: (فقال مالك ولابن أخيك) ؟ أطلق الأخوة باعتبار الإيمان، وهذا يؤيد أن المار غير الوليد، لأن أباه عقبة قتل كافرا، واستدل الرافعي بهذه القصة على مشروعية الدفع ولو لم يكن هناك مسلك غيره، خلافا لإمام الحرمين. ولابن الرفعة فيه بحث سنشير إليه في الحديث الذي بعده إن شاء الله تعالى. قوله: (فليدفعه) ، ولمسلم " فليدفع في نحره " قال القرطبي: أي بالإشارة ولطيف المنع. و قوله: (فليقاتله) أي يزيد في دفعه الثاني أشد من الأول. قال: وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح، لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة والاشتغال بها والخشوع فيها ا ه. وأطلق جماعة من الشافعية أن له أن يقاتله حقيقة، واستبعد ابن العربي ذلك في " القبس " وقال: المراد بالمقاتلة المدافعة. وأغرب الباجي فقال: يحتمل أن يكون المراد بالمقاتلة اللعن أو التعنيف. وتعقب بأنه يستلزم التكلم في الصلاة وهو مبطل، بخلاف الفعل اليسير. ويمكن أن يكون أراد أنه يلعنه داعيا لا مخاطبا، لكن فعل الصحابي يخالفه، وهو أدرى بالمراد. وقد رواه الإسماعيلي بلفظ " فإن أبى فليجعل يده في صدره ويدفعه " وهو صريح في الدفع باليد. ونقل البيهقي عن الشافعي أن المراد بالمقاتلة دفع أشد من الدفع الأول، وما تقدم عن ابن عمر يقتضي أن المقاتلة إنما تشرع إذا تعينت في دفعه، وبنحوه صرح أصحابنا فقالوا: يرده بأسهل الوجوه، فإن أبى فبأشد، ولو أدى إلى قتله. فلو قتل فلا شيء عليه لأن الشارع أباح له مقاتلته، والمقاتلة المباحة لا ضمان فيها. ونقل عياض وغيره أن عندهم خلافا في وجوب الدية في هذه الحالة. ونقل ابن بطال وغيره الاتفاق على أنه لا يجوز له المشي من مكانه ليدفعه، ولا العمل الكثير في مدافعته، لأن ذلك أشد في الصلاة من المرور. وذهب الجمهور إلى أنه إذا مر ولم يدفعه فلا ينبغي له أن يرده لأن فيه إعادة للمرور، وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود وغيره أن له ذلك، ويمكن حمله على ما إذا رده فامتنع وتمادى، لا حيث يقصر المصلي في الرد. وقال النووي: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع، بل صرح أصحابنا بأنه مندوب. انتهى. وقد صرح بوجوبه أهل الظاهر، فكأن الشيخ لم يراجع كلامهم فيه أو لم يعتد بخلافهم. قوله: (فإنما هو شيطان) أي فعله فعل الشيطان، لأنه أبى إلا التشويش على المصلي. وإطلاق الشيطان على المارد من الإنس سائغ شائع، وقد جاء في القرآن قوله تعالى وقال ابن بطال: في هذا الحديث جواز إطلاق لفظ الشيطان على من يفتن في الدين، وأن الحكم للمعاني دون الأسماء، لاستحالة أن يصير المار شيطانا بمجرد مروره. انتهى. وهو مبني على أن لفظ " الشيطان " يطلق حقيقة على الجني ومجازا على الإنسي، وفيه بحث. ويحتمل أن يكون المعنى: فإنما الحامل له على ذلك الشيطان. وقد وقع في رواية للإسماعيلي " فإنما هو شيطان " ونحوه لمسلم من حديث ابن عمر بلفظ " فإن معه القرين". واستنبط ابن أبي جمرة من قوله " فإنما هو شيطان " أن المراد بقوله " فليقاتله " المدافعة اللطيفة لا حقيقة القتال، قال: لأن مقاتلة الشيطان إنما هي بالاستعاذة والتستر عنه بالتسمية ونحوها، وإنما جاز الفعل اليسير في الصلاة للضرورة، فلو قاتله حقيقة المقاتلة لكان أشد على صلاته من المار. قال: وهل المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلي من المرور، أو لدفع الإثم عن المار؟ الظاهر الثاني. انتهى. وقال غيره: بل الأول أظهر لأن إقبال المصلي على صلاته أولى له من اشتغاله بدفع الإثم عن غيره. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود " أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته " وروى أبو نعيم عن عمر " لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس". فهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي، ولا يختص بالمار، وهما وإن كانا موقوفين لفظا فحكمهما حكم الرفع، لأن مثلهما لا يقال بالرأي. *3* الشرح: قوله: (باب إثم المار بين يدي المصلي) أورد فيه حديث بسر بن سعيد أن زيد بن خالد - أي الجهني الصحابي - أرسله إلى أبي جهيم، أي ابن الحارث الصمة الأنصاري الصحابي الذي تقدم حديثة في " باب التيمم في الحضر " هكذا روى مالك هذا الحديث في الموطأ لم يختلف عليه فيه أن المرسل هو زيد، وأن المرسل إليه هو أبو جهيم، وتابعه سفيان الثوري عن أبي النضر عند مسلم وابن ماجه وغيرهما، وخالفهما ابن عيينة عن أبي النضر فقال " عن بسر بن سعيد قال: أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله " فذكر هذا الحديث. قال ابن عبد البر. هكذا رواه ابن عيينة مقلوبا، أخرجه ابن أبي خثيمة عن أبيه عن ابن عيينة. ثم قال ابن أبي خيثمة: سئل عنه يحيى بن معين فقال: هو خطأ، إنما هو " أرسلني زيد إلى أبي جهيم " كما قال مالك. وتعقب ذلك ابن القطان فقال: ليس خطأ ابن عيينة فيه بمتعين، لاحتمال أن يكون أبو جهيم بعث بسرا إلى زيد، وبعثه زيد إلى أبي جهيم يستثبت كل واحد منهما ما عند الآخر. قلت: تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن، فإذا قالوا أخطأ فلان في كذا لم يتعين خطؤه في نفس الأمر، بل هو راجح الاحتمال فيعتمد. ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشاذ، وهو ما يخالف الثقة من هو أرجح منه في حد الصحيح قوله: (بين يدي المصلي) أي أمامه بالقرب منه، وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما، واختلف في تحديد ذلك فقيل: إذا مر بينه وبين مقدار سجوده، وقيل بينه وبين قدر ثلاثة أذرع، وقيل بينه وبين قدر رمية بحجر. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ مَاذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَقَالَ أَبُو جُهَيْمٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ أَبُو النَّضْرِ لَا أَدْرِي أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً الشرح: قوله: (ماذا عليه) زاد الكشميهني " من الإثم " وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات عند غيره، والحديث في الموطأ بدونها. وقال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في شيء منه، وكذا رواه باقي الستة وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها، ولم أرها في شيء من الروايات مطلقا. لكن في مصنف ابن أبي شيبة " يعني من الإثم " فيحتمل أن تكون ذكرت في أصل البخاري حاشية فظنها الكشميهني أصلا لأنه لم يكن من أهل العلم ولا من الحفاظ بل كان راوية. وقد عزاها المحب الطبري في الأحكام للبخاري وأطلق، فعيب ذلك عليه وعلى صاحب العمدة في إبهامه أنها في الصحيحين، وأنكر ابن الصلاح في مشكل الوسيط على من أثبتها في الخير فقال: لفظ الإثم ليس في الحديث صريحا. ولما ذكره النووي في شرح المهذب دونها قال: وفي رواية رويناها في الأربعين لعبد القادر الهروي " ماذا عليه من الإثم". قوله: (لكان أن يقف أربعين) يعني أن المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم. وقال الكرماني: جواب " لو " ليس هو المذكور، بل التقدير: لو يعلم ما عليه لوقف أربعين ولو وقف أربعين لكان خيرا له. وليس ما قاله متعينا، قال: وأبهم المعدود تفخيما للأمر وتعظيما. قلت: ظاهر السياق أنه عين المعدود، ولكن شك الراوي فيه، ثم أبدى الكرماني لتخصيص الأربعين بالذكر حكمتين، إحداهما كون الأربعة أصل جميع الأعداد، فلما أريد التكثير ضربت في عشرة. ثانيتهما كون كمال أطوار الإنسان بأربعين كالنطفة والمضغة والعلقة، وكذا بلوغ الأشد. ويحتمل غير ذلك ا ه. وفي ابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة " لكان أن يقف مائة عام خيرا له من الخطوة التي خطاها". وهذا يشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لا لخصوص عدد معين. وجنح الطحاوي إلى أن التقييد بالمائة وقع بعد التقييد بالأربعين زيادة في تعظيم الأمر على المار، لأنهما لم يقعا معا إذ المائة أكثر من الأربعين والمقام مقام زجر وتخويف فلا يناسب أن يتقدم ذكر المائة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخر. ومميز الأربعين إن كان هو السنة ثبت المدعي، وأما دونها فمن باب الأولى، وقد وقع في مسند البزار من طريق ابن عيينة التي ذكرها ابن القطان " لكان أن يقف أربعين خريفا " أخرجه عن أحمد بن عبدة الضبي عن ابن عيينة. وقد جعل ابن القطان الجزم في طريق ابن عيينة والشك في طريق غيره دالا على التعدد، لكن رواه أحمد وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وغيرهم من الحفاظ عن ابن عيينة عن أبي النضر على الشك أيضا وزاد فيه " أو ساعة " فيبعد أن يكون الجزم والشك وقعا معا من راو واحد في حالة واحدة، إلا أن يقال: لعله تذكر في الحال فجزم، وفيه ما فيه. قوله: (خيرا له) كذا في روايتنا بالنصب على أنه خبر كان، ولبعضهم " خير " بالرفع وهي رواية الترمذي، وأعربها ابن العربي على أنها اسم كان، وأشار إلى تسويغ الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها. قوله: (قال أبو النضر) هو كلام مالك وليس من تعليق البخاري، لأنه ثابت في الموطأ من جميع الطرق. وكذا ثبت في رواية الثوري وابن عيينة كما ذكرنا. قال النووي: فيه دليل على تحريم المرور، فإن معنى الحديث النهي الأكيد والوعيد الشديد على ذلك. انتهى. ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر وفيه أخذ القرين عن قرينه ما فاته أو استثباته فيما سمع معه. وفيه الاعتماد على خبر الواحد لأن زيدا اقتصر على النزول مع القدرة على العلو اكتفاء برسوله المذكور. وفيه استعمال " لو " في باب الوعيد، ولا يدخل ذلك في النهي، لأن محل النهي أن يشعر بما يعاند المقدور كما سيأتي في كتاب القدر حيث أورده المصنف إن شاء الله تعالى. (تنبيهات) : أحدها استنبط ابن بطال من قوله " لو يعلم " أن الإثم يختص بمن يعلم بالنهي وارتكبه. انتهى. وأخذه من ذلك فيه بعد، لكن هو معروف من أدلة أخرى. ثانيها: ظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مر لا بمن وقف عامدا مثلا بين يدي المصلي أو قعد أو رقد، لكن إن كانت العلة فيه التشويش على المصلي فهو في معنى المار. ثالثها: ظاهره عموم النهي في كل مصل، وخصه بعض المالكية بالإمام والمنفرد لأن المأموم لا يضره من مر بين يديه لأن سترة إمامه سترة له أو إمامه سترة له ا ه. والتعليل المذكور لا يطابق المدعي، لأن السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي لا عن المار، فاستوى الإمام والمأموم والمنفرد في ذلك. رابعها: ذكر ابن دقيق العيد أن بعض الفقهاء أي المالكية قسم أحوال المار والمصلي في الإثم وعدمه إلى أربعة أقسام: يأثم المار دون المصلي، وعكسه، يأثمان جميعا، وعكسه. فالصورة الأولى أن يصلي إلى سترة في غير مشرع وللمار مندوحة فيأثم المار دون المصلي. الثانية أن يصلي في مشرع مسلوك بغير سترة أو متباعدا عن السترة ولا يجد المار مندوحة فيأثم المصلي دون المار. الثالثة مثل الثانية لكن يجد المار مندوحة فيأثمان جميعا. الرابعة مثل الأولى لكن لم يجد المار مندوحة فلا يأثمان جميعا. انتهى. وظاهر الحديث يدل على منع المرور مطلقا ولو لم يجد مسلكا بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته. ويؤيده قصة أبي سعيد السابقة فإن فيها " فنظر الشاب لم يجد مساغا " وقد تقدمت الإشارة إلى قول إمام الحرمين: إن الدفع لا يشرع للمصلي في هذه الصور، وتبعه الغزالي، ونازعه الرافعي، وتعقبه ابن الرفعة بما حاصله أن الشاب إنما استوجب من أبي سعيد الدفع لكونه قصر في التأخر عن الحضور إلى الصلاة حتى وقع الزحام. انتهى. وما قاله محتمل، لكن لا يدفع الاستدلال، لأن أبا سعيد لم يعتذر بذلك، ولأنه متوقف على أن ذلك وقع قبل صلاة الجمعة أو فيها مع احتمال أن يكون ذلك وقع بعدها فلا يتجه ما قاله من التقصير بعدم التبكير، بلى كثرة الزحام حينئذ أوجه، والله أعلم. خامسها وقع في رواية أبي العباس السراج من طريق الضحاك ابن عثمان عن أبي النضر " لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلى " فحمله بعضهم على ما إذا قصر المصلي في دفع المار أو بأن صلى في الشارع، ويحتمل أن يكون قوله " والمصلى " بفتح اللام أي بين يدي المصلى من داخل سترته، وهذا أظهر، والله أعلم.
|